القصص التي نرثها: الحرب، الذاكرة وحاضر لبنان المتصدّع
بقلم جويل أبو ناضر
December 3, 2025


الصورة اهداء من أيمن نحلة

نشأتُ في ظلّ الحرب الأهلية اللبنانية، أنتمي إلى جيلٍ لم يعش الصراع مباشرةً، لكنه ورث ندوبه العميقة وسرديّاته المتنافسة. بالنسبة إلى كثيرين منّا، أعادت المواجهة الأخيرة بين «حزب الله» وإسرائيل فتح جراح قديمة، وأثارت أسئلة ملحّة حول مستقبل بلدٍ ما زال منقسمًا بالتاريخ والهوية، وطرحت في الوقت ذاته رؤى جديدة تتحدّى الموروث وتفتح أبوابًا لاحتمالات التغيير. هذا الصراع على السرديات ليس سياسيًا فحسب، بل شخصيّ بعمق، إذ يرسم ملامح نظرتنا إلى أنفسنا وإلى مجتمعاتنا، وإلى ما تبقّى من احتمال هزيل للسلام. وكما في الحرب الأهلية بين ١٩٧٥ و١٩٩٠، ما زالت المجتمعات اللبنانية حادّة الانقسام على أساس طائفي. هذا النص يحاول أن يستكشف كيف تُصاغ هذه السرديات، وما إذا كان في رواية القصص القدرة على ردم الهوّة المتّسعة بين اللبنانيين.

بعد الصراع الأخير، برزت مقاربتان أساسيتان بين الشباب، وكلتاهما متأثرة بإرث الحرب الأهلية اللبنانية ـ حرب الخمسة عشر عامًا التي وسمتها الطائفية والتدخلات الخارجية والتشرذم العميق ـ وبالقصص الموروثة عبر الأجيال. هذه الذاكرة ليست تاريخًا مؤرشفًا، بل هي حيّة في العائلات والمجتمعات، لتشكّل وعي الشباب بأنفسهم ومكانهم في الوطنٍ. بعضهم، متأثرًا بسرديات المقاومة، يرى في قتال «حزب الله» في مواجهة إسرائيل امتدادًا ضروريًا لذلك النضال. آخرون، وقد أثقلتهم عقود من العنف، لا يرون إلا الوجع وخراب، ويرغبون فقط في نهاية الحرب بالمطلق. أمّا بالنسبة إليّ، فهذه السرديات المتنافسة ليست بعيدة، بل هي خيوط تنسج حياتنا اليومية، تحدّد مَن نثق به، ومَن نخافه، وما إذا كان يمكننا أن نتخيّل مستقبلًا سلميًا.

في الضاحية الجنوبية لبيروت، حوّلت ناشطات شابات، تتراوح أعمارهنّ بين ١٦ و٣٠ عامًا، دمار الغارات الإسرائيلية إلى فعلٍ للتعبير السياسي. استخدمن الجداريات لرسم صور قائد «حزب الله» الراحل السيّد حسن نصرالله على جدران الضاحية. بالنسبة إلى كثير منهن، لم يكن الأمر مجرّد فن، بل وسيلة لاستعادة شعور بالانتماء والأمل وسط الفوضى، إعلانًا قويًا أن صوت مجتمعهنّ لن يُمحى رغم الخراب.

في الشمال، احتشد طلاب الجامعة اللبنانية تضامنًا مع غزة، مدينين العدوان الإسرائيلي وداعين إلى الوحدة الوطنية. كذلك نظّمت المجالس الطلابية التابعة لـ«حزب الله» اعتصامًا تضامنيًا في مجمّع الحدث الجامعي، حيث رفع الطلاب شعارات داعمة لفلسطين ومندّدة بالانتهاكات الإسرائيلية. في مشاهدة هذه التظاهرات وغيرها، بدا جليًا أن «حزب الله» ما زال يحتلّ مكانة رمزية كحصن ضد التدخل الأجنبي ومصدر فخر لفئات واسعة. هتافات الطلاب ولافتاتهم ذكّرتني بمدى تغلغل سرديات المقاومة في وجدان الشباب اللبناني، وقد انتقلت إليهم من أحيال سابقة عاشت الحرب والاحتلال.

لكن بالنسبة إليّ ـ وإلى كثيرين ممّن نشأوا على سماع قصص الحرب الأهلية ـ فإنَّ الرغبة في تجنّب حرب جديدة ليست سياسية فحسب، بل هي نداء  نابع من صدمةٍ موروثة من عائلاتنا والخوف الدائم من تكرار الماضي. في بلدٍ ينهكه أصلًا الانهيار الاقتصادي والشلل السياسي، تبدو فكرة صراع آخر لا تُحتمل.

يمكن رؤية ذلك في مناطق أخرى من بيروت، حيث انتشرت ملصقات تحمل رسائل مثل: «كفى، تعبنا. لبنان لا يريد الحرب». هذه اللافتات تعبّر عن معارضة متنامية بين الشباب لدور «حزب الله» العسكري. حتى داخل البيئة الشيعية، التي طالما شكّلت حاضنة «حزب الله» الأساسية، تتزايد مشاعر القلق مع اتّساع رقعة الدمار والنزوح. هذا الانقسام أعاد تذكيري بإلى أيّ مدى ما زال إرث الحرب الأهلية يقسمنا، ويضع الشباب بين روايات موروثة وواقع قاسٍ يتشكّل أمام أعينهم.

رأيت قصصًا ـ نُشرت على الإنترنت، تمَّ الهمس بها في مقابلات، أحياناً  متخفية وراء رسوم متحرّكة أو أسماء مستعارة ـ يرويها لبنانيون وسوريون يرفضون الحرب بوضوح. قال أحدهم: «هذه العداوة وهذه الحرب كلّفتنا غاليًا». هذه العبارات ليست مواقف سياسية وحسب، بل تجارب معاشة، تتحدى فكرة النزاع من أساسها. ومع خروج مزيد من هذه الشهادات إلى السطح وحصولها على الاهتمام، لا أستطيع إلا أن أشعر أنَّ التوتّر يتصاعد. فهذه القصص لا تكشف فقط حقائق مخفيّة، بل تبرز أيضًا إلى أي مدى صار فهمنا للصراع مسكورًا.

في أحد أجزاء بيروت، تحتضن مقبرة روضة الشهيدين في الضاحية الجنوبية ما يقارب المئة قبر لمقاتلين شبان من «حزب الله»، قضوا في مواجهات مع إسرائيل أو في سوريا إلى جانب قوات الأسد. شواهد قبورهم تتزيّن بشرائط صفراء كُتب عليها «شهداء على طريق القدس». هناك، تزور العائلات ـ ولا سيّما الأمهات الثكالى ـ أبناءها بانتظام، في طقوس تجمع بين الحزن والفخر. إحدى الأمهات فقدت ابنها، وهو أب لولدين في الثلاثين من عمره، في غارة إسرائيلية على عيتا الشعب. لا تتطلع إلى في موته بندم، بل تراه تضحية نبيلة في سبيل الأرض والإيمان.

في مشهد آخر، زارت طبيبة أحد الملاجئ الحكومية محاولةً مواساة أرملة حديثة الفقد، لكن الأخيرة باغتتها بالقول: «لا تُعزّيني… هنّئيني». اعتبرت استشهاد زوجها مصدر فخر. هذا الرد فاجأ الزائرة وعكس هذا التباين بين الحزن والفخر. هذه اللقاءات الشخصية تُبرِز عمق الانقسام بين الرؤى الدينية والسياسية، إذ حتى في لحظة الفقد، تظلّ المجتمعات اللبنانية منفصلة برؤياها وإيمانها العميق بشأن معنى التضحية والهوية. هكذا يتحوّل بطل في رواية عائلة إلى مصدر ألم أو انقسام لعائلة أخرى، بما يبيّن كيف تشكّل السرديات المتباينة نظرتنا بعضنا إلى بعض، وغالبًا ما تكرّس التباعد بدل أن تردمه.

هذه السرديات المتنافسة لا ترسم فقط طريقة فهمي للحاضر، بل تؤثر أيضًا على رؤيتي للمستقبل. فإذا بقيت تلك الروايات متصلّبة ومتنافرة، فإننا نخاطر بتكرار دوامة العنف التي صنعت ماضي بلادي. لكن إذا تعلّمنا أن نصغي عبر الانقسامات، وأن نعترف بكلٍّ من الألم والأمل، فقد يكون هناك فرصة لمستقبل مختلف: مستقبل تجمعنا فيه هذه القصص بدل أن تقرّقنا.



تأمل لجويل أبو ناضر في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان».


القصص التي نرثها: الحرب، الذاكرة وحاضر لبنان المتصدّع
SHARE