على الرغم من أنني وُلدت بعد سنوات من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن ظلالها لم تغادر بيتنا يومًا. جدّتي أبقت قصص الحرب حيّة، لا كدروسٍ في التاريخ، بل كتحذيرات. من طريقة تخزينها لطعام إضافي، إلى ارتجافها عند سماع باب يُغلق بقوة، أدركتُ أن الحرب لم تنتهِ بالنسبة إليها، ولا بالنسبة إلى أولادها.
ما لم أستوعبه إلا لاحقًا، هو أن الحرب لم تنتهِ بالنسبة إليّ أنا أيضًا.
كانت أمّي مجرّد طفلة عندما مزّقت الحرب عالمها. ففي عام ١٩٨٣، أثناء مجزرة كفرمتى، اضطرت مع أفراد عائلتها إلى الفرار. اختبأوا في مؤخرة شاحنة محمّلة بالبندورة، محشورين بين الصناديق، يداها الصغيرتان تقبضان على ثوب والدتها. ما زالت تتذكر رائحة البندورة المهروسة تحت قدميها؛ لذلك تكرهها حتى اليوم، وترفض حتى شراءها. لم تكن تفهم السياسة آنذاك، ولا مَن يطلق النار ولماذا، كل ما عرفته أنها لم تكن في أمان، وأن طفولتها انزلقت بصمت في الصندوق الخلفي لتلك الشاحنة.
وإلى اليوم، تصرخ والدتي إن رأت سلاحًا ناريًا في التلفاز أو في صورة أو على أرض الواقع. ليس بدافع المبالغة، بل من رعبٍ حقيقي ولا إراديّ. لا تشاهد أفلام الحرب إطلاقًا، فهي لا تستطيع. الألم صاخب جدًا، قريب جدًا، ومنقوش بعمق في جهازها العصبي.
لقد نجَت، نعم. لكن النجاة ليست الشيء نفسه كالشفاء. وبطرقٍ لم أفهمها إلا مؤخرًا، وصلت حربها إليّ أنا أيضًا.
في المدرسة لم نتعلّم شيئًا يُذكر عن الحرب الأهلية. فما زال لبنان يفتقر إلى منهج تاريخي موحّد يتناولها. بعض زملائي كان آباؤهم مقاتلين، آخرون كانوا لاجئين، ومعظمنا عُلِّمنا الصمت حيال الأمرين.
من دون سردية مشتركة، تُرك جيلنا يرقّع ذاكرته من قصص عائلية، وهمسات، وفراغ.
أما حكاية أبي فكانت مختلفة، لكنها لا تقلّ رعبًا. كان مقاتلًا في “جيش التحرير الشعبي”، تدرّب في الاتحاد السوفياتي على أيدي عناصر من الـKGB، ثم أصبح قائدًا. لا يتحدث عن الأمر كثيرًا. أحيانًا أظن أن لديه كلمات دفنها في أعماق نفسه حتى لم يعد قادرًا على الوصول إليها. كل ما أعرفه أنه كان طفلًا زُجَّ به في عالم وحشي، مؤمنًا بأن الأرض أثمن من الإنسان، يحمل بندقية أثقل من جسده، فيما كان غيره من الأطفال يحملون كتبًا. تعلّمت احترام صمته، لكنني تعلّمت أيضًا أن أقرأ ما بين سطوره.
الآثار الاقتصادية للحرب كانت إرثًا آخر نحمله. فبيت أجدادي في كفرمتى أُحرق ليس مرة بل اثنتين، وهما لم يتعافيَا ماليًا بالكامل من الأمر. مثل كثيرين ممن هجّرتهم الحرب، أمضيا سنوات يحاولان إعادة بناء حياتهما من الصفر، يحملان التروما في يد والفقر في الأخرى.
أما الاقتصاد اللبناني بعد الحرب، فلم يُبنَ للتعافي، بل خُصّص لرعاية أمراء الحرب الذين تحوّلوا إلى سياسيين. نظامٌ يزدهر فيه الفساد والمحسوبية، فيما يعاني المواطنون يوميًا. والنتيجة بالنسبة إلى جيلي؟ بطالة متفشية ومُحَلَِّقة، بُنية تحتية متآكلة، عملة منهارة، وإدراك مؤلم أننا ما زلنا ندفع ثمن حرب لم نخضها.
لقد غيّر أمراء الحرب بزّاتهم، لا أرواحهم.
نشأنا نرى أهلنا يقتّرون في كل ليرة، يصلّون ألّا تنقطع الكهرباء أثناء الاستحمام، نحلم بالهجرة إلى مكانٍ أكثر استقرارًا. ليس لأننا نريد الكثير، بل لأننا نريد قليلًا من الراحة.
أما النظام السياسي الذي أُرسِي بعد الحرب، القائم على المحاصصة الطائفية، فقد كرّس الانقسامات التي حفرتها الحرب في جسد البلاد. أبقى على نفوذ وجوهٍ أشعلت العنف سابقًا، ونقل ذلك الخلل كأنه لعنة موروثة.
وبالنسبة إلينا، نحن أبناء الناجين والناجيات من الحرب، عزّز هذا النظام شعورًا بالخيانة. يُتوقع منّا المضيّ قدمًا في بلدٍ يحكمه مَن رفض مواجهة ماضيه. نرى الأعلام ذاتها، نسمع الخُطب نفسها، ونسير في شوارع تحمل أسماء رجالٍ كان أهلنا يومًا يخافونهم. ورثنا الصدمة، نعم، لكننا ورثنا أيضًا هوية وطنية متصدّعة، معلّقة بين البقاء وخيبة الأمل.
ومع ذلك، نحن نصمد. ربما لأن علينا ذلك، وربما لأن في داخلنا شيئًا من ذاك الصمود الذي ورثناه.
أفكر بأمّي، تلك الطفلة الخائفة في شاحنة البندورة، مختبئة، صامتة. وأفكر فيها اليوم، تراقبني أتكلم عن الأمر، تراقبني أكتب هذه الكلمات. هي ما زالت تحمل الحرب في عظامها، لكنني أحمل شجاعتها في عظامي. كم وددت لو احتضنت تلك الطفلة، وأغمضتُ لها عينيها وأذنيها.
لكن ثمة قوة في تسمية ما نحمله.
لقد شكّلت الحرب أهلنا، وشكّلنا أهلنا، والآن عندنا فرصة أن نشكّل شيئًا مختلفًا. قد نعيش مع الأشباح، نعم هذا صحيح، لكن ليس علينا ألا نسمح لها بمطاردة المستقبل.
هناك قصص أعلم أنني لن أسمعها يومًا، فصول من حياة والدّي طُويت قبل ولادتي. أحيانًا، في لحظات الهدوء، أشعر بهما جالسَين في ذاك الصمت، شديدَي الخوف من طي الصفحة. توقّفت عن طرح بعض الأسئلة، ليس لأنني لا أريد أن أعرف، بل لأنني تعلّمت ثمن التذكّر. حين يسرح والدي طويلًا في الفراغ، أعلم أنه في مكان لا أستطيع اللحاق به. وحين تطفئ أمّي الأخبار في منتصف النشرة، أعلم أنها لا تهرب من ضوضاءٍ عابرة، بل من ذاكرة.
لقد علّماني أن البقاء على قيد الحياة قد يعني أحيانًا الصمت. لكنني تعلّمت أيضًا أن الشفاء يبدأ بتسمية ما نخشى قوله. وربما، يومًا ما، عندما يلين الحزن، سيتركان الكلمات تنساب. وربما، يومًا ما، سنجلس معًا كأفراد أسرة، نفتح تلك الفصول المغلقة، ونُضمّد جراحهما.
تأمل لجنى ملاعب في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان».