هذه المقالة وُلدت من ذاكرة. ذاكرة طفلة لمَسَت التفجّع الذي أحاطَ بفخْذة أبيها. طلقة نارية أصابته في الحرب الأهلية اللبنانية وحريق في وجهه تسبب باختفاء بعض ملامحه التي تراجعت إلى الخلف، مع انفجار خزّان الوقود في وجهه حينَ كان جنديًّا باللواء السادس في الجيش اللبناني. بسرعةٍ، فرضت الكتابة نفسها عليّ، لأتكلم عن المسافة السياسية بيني وبين أبي. لم أتوقّع صعوبة ما قادَني إليه بحثي في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية. فبينما كان أبي يستخدم في كلّ مرة تاريخه لإضفاء نوع من الشرعية على وُجهات نظر معيّنة، كنتُ أقرأ بلا حنين وبتواطؤ مع شغَفي باكتشاف ما هو أبعد من الصندوق الطائفي الذي انتميتُ إليه.
توقّفَ التاريخُ في مدرستي عند الفترة العثمانية، توقّف الزمن في جميع المدارس اللبنانية هناك، لم يكن للحرب الأهلية اللبنانية وجه، مكان أو أثر. لستُ من مناصري التاريخ الموحَّد للحرب الأهلية. وُلدتُ بعدَها، ثمَّ علمتُ أنَّ الذاكرة هي المحرّك الأساسي للحاضر في هذه البقعة، وأنَّ البُعد الأسطوري للماضي لدى كلّ طائفة وجماعة تقوم على تعبئة الذاكرة واستعمالها لتعزيز هذا التقوقع الذي ما زلنا نعيشه!
حينَ كنتُ أسمع مغامرات أبي في هذه الحرب، كنتُ أعتقدُ أنها حرب تخصّ الرجال فقط. نادرًا ما جرى التطرُّق إلى النساء إلّا في بعض كُتب السِّير الذاتية التي قرأتها لاحقًا، أو في المرويات الشفوية، والشهادات التي انتشرت بعد أعوام بعيدة. كنَّ دائمًا في الخلفية، في الظلّ، كما لو أنَّ نسيان رواياتهنَّ، كان جزءًا من مشروع الذاكرة التاريخية لكلّ الأطراف المشاركة.
وكانَ سؤال: كيفَ يُعطي الجندر معنًى لتنظيم المعرفة التاريخية؟ مدخلًا أساسيًا لأبني تصُّورًا مختلفًا عن الحرب الأهلية اللبنانية وعن الفئات التي همّشَتها السَّرديات الكبرى وأزاحتها عن الوسط.
لستُ بصدد التطرُّق إلى الإشكالات التي أحاطت الجندر في تنظيم المعرفة التاريخية، فما يهمُّني فقط هو ما صاحَب «التأريخ النَّسوي» من أسئلة أثارت لديّ الفضول للبحث والقراءة في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية: لماذا من الضروري رؤية التاريخ من خلال عيون النساء؟ هل شاركت النساء في الحرب الأهلية اللبنانية؟ ما طبيعة مشاركتهن...؟
أخذَت الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت ١٥ عامًا، شكل الحرب الطائفية، كُتبت سردياتها وأحداثها من منظور القوى المسيطِرة وبناءً على تجاربها. لم يتمّ التطرُّق إلى النساء وأدوارهنّ المتنوّعة، وإن جرى ذلك، فغالبًا ما كان من باب التنميط واعتبار أعمالهنّ الرعائية أحداثًا خاصة على سبيل المثال. بعض الشهادات التي سأعرضها تبيِّن عكس ذلك. لتكون أصواتهنَّ أبعدَ من «تفاصيل شخصية».تعرض الدكتورة روزماري صايغ في ورقتها «المرأة في الحرب الأهلية اللبنانية - قوة البنادق» الصادرة عن «مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية» قصة امرأة مسلمة سنِّية انضمت للمشاركة مع ابنتها البالغة من العمر ١٨ عامًا في أعمال الإغاثة ضمن الصليب الأحمر في الحرب. تحكي الأُم عن تجاربها القاسية على الحواجز، خاصة عند نقطة التفتيش المسيحية عندما كانت تُسأل دومًا عن هويتها، فتقول إنَّ اسم عائلتها أنقذَها مرارًا من القتل، هي وأطفالها، كَون والد زوجها يُعدُّ من الشخصيات المؤسِّسة للبنان.
تروي ابنتها أنّ والدتها كانت نشِطة بشكل لافت، إذ كانت تستضيف العائلات اللاجئة والنازحة، توفِّر لهم الطعام والمأوى، وتواصل في الوقت عينه رعاية أطفالها، وتقديم الإسعافات للمصابين.
وتسرد الابنة أنه في إحدى المرات، حين خرجتُ لشراء القهوة من المتجر المجاوِر، حصل انفجار، وبمحض الصدفة كانت تقف خلف عمود، فلم تُصَبْ. وعندما بدأ الدخان ينقشع قليلًا، شاهدت جثثًا على الأرض وجرحى ينزفون. تلفتّت حولها، ورأت مجموعة من النساء المحجَّبات، فأخذت حجاباتهن وبدأت بمعالجة الجرحى وتخفيف عوارض النزيف، محاولة إنقاذ من استطاعت.
يقوم فهمنا لقضايا النساء في الحروب من منطلق نقل الجندر من المجال الخاص إلى العام، على كسر الثنائية التي تفصل بين هذين المجالين، عندئذٍ، تذهب قضاياهنَّ المتعلقة بحياتهنَّ وأجسادهنّ وعلاقاتهنّ في الحرب للانتقال إلى صلب التاريخ، فتصير قضايا سياسية واجتماعية عامّة حتى تلك المرتبطة بالأعمال الرعائية.
التأريخ النَّسوي يتأسّس جوهريًّا على هذا الانتقال. إذ يحاول إضافة تجارب النساء في كتابة التاريخ، ليست كتجاربَ هامشية، بل كأحداثٍ جوهرية نعي عبرها التأثيرات التي تركتها النساء أثناء انخراطهنّ المُتنوِّع في الحرب الأهلية اللبنانية، خصوصًا مع تغييبهنَّ من السَّرديات الرسمية.
تستعرض الكاتبة اللبنانية رجينا صنيفر في كتابها Je dépose les armes - Une femme dans la guerre du Liban، وهو شهادة شخصية، تجربتها كامرأة عاشت الحرب الأهلية اللبنانية، وانخراطها كمقاتلة ضمن إحدى الميليشيات المسيحية قبل أن تستقيل أخيرًا وتسافر وتنأى بنفسها عن المشاركة في الحرب.
في مثال آخر، ورد في كتاب الدكتورة صايغ الذي أشرتُ إليه أعلاه، تشارك ميشيل، الفتاة ذات الثلاثة عشر عامًا، شهادتها في الحرب. فهي كانت تقطن الأشرفية ووالدها ينتمي إلى حزب الكتائب بقيادة بيار الجميل الجدّ. وكان يوجد أمام منزلها نقطة تفتيش، وعندما أعلموها بحاجتهم إلى نساء للتحدُّث عبر الأجهزة اللاسلكية، انخرطت في العمل في مركز الكتائب. بعد ذلك تلقَّت أولى تدريباتها في منطقة الدورة وحملت السلاح.
في المقلب الآخر، تحديدًا في بيروت الغربية، تسرد دلال البزري في كتابها «الحرب الأهلية اللبنانية»، انخراطها في الحزب الشيوعي اللبناني وتعاونها مع الفصائل الفلسطينية، ومشاركتها في الجبهات وفي الحرب بشكلٍ مباشر. تقول في هذا السياق: «مهمّتنا لا تقتصر على «الداخل»، أي في المدرسة - المركز. فبعد تأمين الغذاء، في طناجر ضخمة، بكميات تلبّي شهيَّة ٥٠ رفيقًا ورفيقةً، بعد أن نكون قد أفرغنا مهارتنا كلها في تعديل النار، ورشّ الملح... لم نكن نرتاح، بل كنّا نتابع نهارنا، وننفِّذ المهمّات الخارجية.نساء انخرطنَ أيضًا في عملية البناء، كإيمان خليفة، المعلمة التي تحوَّلت إلى ناشطة سلام، بعد دعواتها للاحتجاج والاعتصام على الجرائم التي ارتكبتها الميليشيات في الحرب الأهلية اللبنانية. وعلى الرغم من أنَّ مسيرتها لم تحقّق نجاحًا بسبب سيطرة الميليشيات على الحيِّز العام، إلّا أنها تركت أثرًا كبيرًا، إذ حرّكت اعتصامات خارجية في لندن وباريس ونيويورك للمطالبة بوقف إطلاق النار
بعد أكثر من ٢٠ عامًا على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، أصدرت «الحركة القانونية العالمية» LAW، لأول مرةٍ في ٩ حزيران (يونيو) تقريرًا، بناءً على شهادات نسائية بعد أن أجرت معهنّ مقابلات. وعند سؤالهنّ عن سبب عدم توثيق قصصهنّ من قبل، كان جوابهن: «إنها المرة الأولى التي تُسألنَ فيها ويتم إجراء مقابلات معهنَّ».
حمل التقرير عنوان: «اغتصبونا بجميع الطرق الممكنة، بطرق لا يمكن تصورها: جرائم النوع الاجتماعي خلال الحرب الأهلية اللبنانية». ما أثار ضجة واسعة بعد الكشف عن الاغتصاب الممنهج التي قامت به بعض الميليشيات بحقهنَّ في الحرب.
أعادني هذا التقرير للتفكير في أهمية التوثيق الشفَوي من منظورٍ نسَوي. إذْ يُعتبر التوثيق جزءُ لا يمكن الاستغناء عنهُ في منهجية التأريخ النسَوي، وهو مسار أساسي في إعادة كتابة تاريخ الحرب الأهلية من منظور يكشف عن التجربة النسائية المتنوِّعة. ويعترف التقرير بأنَّ الذاكرة النسائية، الشخصية كانت أم الجَمعية، تكشف علاقات السيطرة والقوة في سردية الحرب الأهلية اللبنانية، وتمنح فرصة للحديث عن العدالة الانتقالية.
عندما أعدْتُ قراءة تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية من منظور جندري، فهمت كيف أنَّ الميليشيات التي شاركت والقوى التي كتبت التاريخ ونقلت الأحداث، أعادت إنتاج الإقصاء والتمييز في المجتمع الذي عشتُ فيه أغلب أيام حياتي حتّى انفجار مرفأ بيروت عام ٢٠٢٠.
تكمن أهمية التأريخ النَّسوي، بالنسبة لي كامرأة تجرّأتْ على الخروج من عباءة الطائفة التي نشأت فيها، في فهم جذور اللامساواة، وتحليل البُعدين العام والخاص معًا دون تغييب لأدوار النساء أو تهميشها، ما منحني ذلك أدوات لإنتاج خطاب جديد، ما بعد طائفي، أسعى من خلاله إلى المطالبة بالعدالة لكلّ من تمّ تهميشه أو إقصاؤه أو ارتُكبت الجرائم في حقه، بغضِّّ النظر عن انتمائه.
حين كتابة هذه المقالة، تذكّرتُ ما قالهُ ذات مرة الكاتب الفرنسي جان جينيه: «الكتابة هي الملاذ الأخير لمَن خان». وأنا كتبت لأنني خُنت السَّردية الأولى - سردية طائفتي ومحيطي - لصالح ما تبقّى لي من هذا الوطن.