الأوزاعي أرض غُربة وتهجير
بقلم ريان ناصر
December 1, 2025


الصورة اهداء من أيمن نحلة

«إن الهوية إبداع صاحبها، لا وراثة ماضي» الشاعر الفلسطيني محمود درويش

كيف يمكن للهوية أن تكون منفتحة على التعدَّد؟ لطالما راودني هذا السؤال، بعدما انتقلت من منطقة الأوزاعي حيث لتلك المنطقة محطة أساسية في حياتي من الولادة والنشأة... ولطالما تردَّد على مسمعي حكايات كثيرة عن التبدُّلات السكنية التي شهدتها هذه المنطقة بفعل الحروب.

أن تحمل على كتفَيك كاهل الطفولة والشباب وتمضي بعيدًا يعني أن تُعيد النظر في مكان نشأتك بصورة مغايرة قد تكون إلى حد كبير أوسع وأشمل مما كنت عليه داخل «المربَّع الآمن». ويعني أيضًا أن تشكِّك بهذا «المربَّع الآمن» نفسه. كيف لمجموعات من خلفيّات متعدِّدة، تهجَّرت من أماكن مختلفة، قد وصلت إلى نقطة تجمّع واحدة؟ وكيف تشكّل ما نُطلق عليه «الفرز الديموغرافي».

أن تفقد مجموعة ما مفهوم الهوية في مكان مُغلق هو المحفِّز الأساسي لبناء كتلة جماعية موحَّدة تتشارك نفس الأوجاع والأحلام، وربما أحيانًا المصير والقدَر، خصوصًا إذا كان الماضي نفسه نقطة مشتركة أيضًا، وهو خلفية الحرب ونتائجها.

هذا ما يُميِّز مجتمع منطقة الأوزاعي الذي تشكَّل مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، حيث لا هوية فردية لسكان تلك المنطقة وجميعهم توحِّدهم هوية جماعية تندرج تحت مسمّى «هوية المكان الواحد» الذي جمع أُناس بعضهم تهجّر بفعل الحرب وجاء من ضواحي بيروت الشرقية، وبعضهم الآخر نزح من قرى جنوبية وبقاعية وسكَنوا تلك البقعة الصغيرة الساحلية، وهي ما أُطلق عليها اليوم تسمية «أرض الغرباء». 

حاجة سكان الأوزاعي لإيجاد مساحة آمنة دفعهم للاتحاد والتلاحم وبناء مربَّع مستقل ومتفرِّد بذاته، له لغته وكلمات مفتاح خاصة بأهاليه. أسلوب كلامي خاص في كل مجموعة، التقت في مكان واحد، تلاقت الكلمات إلى أن تكوَّنت لغة الأوزاعي الخاصة والتي وصلتنا نحن جيل اليوم بالتواتر من جيل إلى جيل.

داخل المكان

لم أعرف في طفولتي مسمَّيات رسمية مكتوبة على جدران، ذاكرتي محصورة في تقاطع زاروبين يجمعهما «دكانة أم محسن»، ومدرستي التي كانت تُدعى «رويال سكول» وتقع في «الحيّ الجوّاني». مساحة اللعب والأحلام كانت تنتهي دائمًا عند «راس الطلعة» حيث الشارع العام الذي علِمت في ما بعد أنه مدخل العاصمة بيروت. أحياء تسكُن أحياء، بعضها يُنسب إلى أسماء قراهم كـ «حي أهل بليدا»، وبعضها يُنسب إلى أسماء العائلات مثل «حي آل عساف». وبعض مسمّياتها تتّصل مباشرة بالحرب الأهلية و«شهدائها»، «شهداء» الجهات الداخلية والحروب الأهلية المُتكرِّرة أو الحروب الإسرائيلية التي لا زلنا نعيشها حتى اللحظة. 

جغرافيًّا، وعلى الرغم من أننا نتنفَّس رائحة مياه البحر ويلفحنا رذاذ أمواجه وتبتلّ شفاهنا بالمياه المالحة عندما نغسل وجوهنا صباحًا، إلّا أن ليس لكل البيوت الحظّ في أن ترى أو تجاوِر البحر، فالناس «المهجرين» كُثر وبيوتهم متلاصقة، بعض الشبابيك مفتوحة على البحر الكبير والغالبية منها تطلُّ بعضها على بعض.

هي الحرب الأهلية التي لم أكن قد وُلدت بعد عندما اندلعت وعندما انتهت. هي من نتائجها التي أفرزت تلك العشوائيات في الأبنية والجدران الإسمنتية التي تحجب عنّا زِرقة البحر كما تحجب عنّا الحياة الأخرى التي تعيشها المدينة، رغم أن بعض مسمّيات النواحي كانت ثقيلة على مسامعنا نحن الأطفال مثل «حي السان سيمون» و«الأكابولكو»، والتي لم يبقَ منها اليوم سوى الاسم وبعض الأطلال، منها ومن جدران الشاليهات ومنتجعات السباحة التي كانت تستقبل أغنياء المدينة وسياسييها والسوَّاح، في الخمسينات والستينات قبل الحرب.

أثناء الحرب تغيَّرت وُجهة المنطقة السياحية الفاخرة وانتهت ببناء مكعّبات إسمنتية واكتظاظ سكاني عشوائي وصولًا إلى ما وصلت إليه اليوم من تجمُّعات وأحياء مُقفلة على ساكنيها، بعضها عائلي وبعضها الآخر خارج عن القانون، تطلع علينا كل يوم بأحداثٍ وحكايات عنيفة تستمدُّ عنفها من عنف حروبنا الصغيرة.

قرية حنتوس

بالعودة إلى القديم، لطالما تساءلت عن أصل هذه البقعة التي كانت مرتفعًا رمليًّا يمتد إلى منطقة الرملة البيضاء، وكانت قبلًا قرية صغيرة تُدعى «حنتوس» قبل نحو ١٢٤٠ سنة، تقع في المنطقة الجنوبية من مدينة بيروت بموازاة البحر. اندثرت قرية «حنتوس» مع مرور الزمن وتبدُّل العصور، باستثناء مسجدها القديم الذي كان يُسمى «مسجد حنتوس»، والذي يحتضن ضريح الإمام الأوزاعي المتوفى سنة ٧٧٣ ميلادية. لست أدري لماذا شخصية مثل شخصية الإمام الأوزاعي، إمام بيروت وسائر الشام والمغرب وصولًا للأندلس، والذي وُلد في مدينة بعلبك، هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، كان يلقّب بإمام أهل الشام، وكِنيته هي أبو عمرو، ينتمي إلى الأوزاع؛ وهي منطقة في دمشق سكََنها في غابر الأيام العديد من القبائل، قيل إنّه كان أعلم أهل الشام، وعُرف بأنّه ثقة ومن أخيار الناس. كان واحدًا لا مثيل له في زمانه، فقد كان عالم عصره، لا يخاف في الله لومة لائم؛ يقول كلمة الحقّ في كلّ حال دون أن يخاف سطوة ملك أو سلطان.

 لست أدري لماذا أوصى بدفنه في قرية «حنتوس»، لتحمل بعدها اسمه. أتساءل: هل يعرف سكان المنطقة اليوم مَن هي هذه الشخصية التي تحمل اسم مكان إقامتهم والذي لُقِّب بشفيع المسلمين والنصارى واليهود في العصرين الأموي والعباسي.

يُدفن الإمام الأوزاعي اليوم وحيدًا مع تاريخه محاطًا بعشوائيات في اغتراب دائم كحال سكان المنطقة، وهو مُحاط بالأبينة الإسمنتية بعد أن كان معْلَمًا فريدًا ووحيدًا على شاطئ البحر، حتى تابعيه من البيارتة الذين سكنوا في الأوزاعي قبل الحرب وكانوا يعملون في البحر والمرفأ تركوا الأوزاعي، مكانًا وإمامًا، تدريجيًّا خلال الحرب الأهلية والنزاعات بين الطوائف وبات مرتادو المسجد اليوم يُعدون بالعشرات فقط.

كنيسة سيِّدة البحار

حيّ الكنيسة كان من التسمّيات التي لا تقلّ غرابة عن سابقتها في طفولتي، ماذا تفعل الكنيسة بيننا؟ أتساءل أنا الذي وُلدت بعد الحرب. «المسيحية» بالنسبة لي هي الآخَر الغريب والتي عرفتها من خلال اسم الحيّ، ومن خلال قصة الجارة التي تُدعى منى مارون، المسيحية التي تزوجت مسلمًا ولقَّب سكان الحيّ أولادها باسم عائلتها، ومنهم ابنها، المعروف اليوم في الحيّ، بمحمد مارون. والآخر، المسيحي، لم يُهجَّر من منطقة الأوزاعي فحسب، بل هُجِّر من ساحل المتن الجنوبي بشكل عام، كبلدات حارة حريك والمريجة والليلكي، وكذلك العائلات التي كانت تعجُّ أملاكها بالحدائق وبساتين البرتقال، كما روََته لي منى مارون.

هي الحرب إذن، التي نعيش مخلّفاتها دون أن نحصل على أجوبة نهائية عن مسبِّباتها وبداياتها ونهايتها المفتوحة. نبحث اليوم عن مسبِّباتها في الكتب والمقالات، وأختصر صورة الآخر بجارتنا وببقايا تلك الكنيسة التي ليس من زمن بعيد علمت أنها شُيِّدت عام ١٩٥٢ وكان يرتادها سكان الأوزاعي من المسيحيين المتواجدين على الشواطئ.
تقول الرواية التاريخية إنه بعد أحداث ١٨٦٠ لجأ المسيحيون الهاربون من المذابح في الجبل إلى ساحل الأوزاعي وخلدة والدامور ليسكنوها ويزرعوها ويعيشون فيها. وكانت الأوزاعي قديمًا قريةً معظم سكانها من المسيحيين ومن أشهر عائلاتها: الحسيني وإبراهيم ومتّى وطويل وسعادة ودكّاش.

وتقول الرواية إن مصطافين من المسيحيين كانوا يقصدون منطقة الأوزاعي لقضاء عطلة الصيف بالقرب من البحر، وحتى يمارسوا طقوسهم الدِّينية أشادوا هذه الكنيسة التي سُمّيت بـ«سيدة البحار» بين عامي ١٩٥٢ - ١٩٥٣. بعد انتهاء الحرب الأهلية لم يعُد أحد إلى الشاطئ الذي كان مركزًا للاصطياف والمنتجعات السياحية، ولم يعُد حتى سكانها الأصليين من المسيحيين وبقيت أطلال كنيسة «سيدة البحار» تنتظر حتى اليوم عودة أبناءها إليها، مثلما بقي ملفّ الحرب الأهلية مفتوحًا ومستمرًّا وحائلًا دون عودة السكان الأصليين إلى منازلهم وأملاكهم.

لا أجوبة شافية من المطرانية التي تقع الكنيسة في نطاقها الرَّعوي ولا مخططات موضوعة تشي بقرب إعادة بنائها من قِبل بلدية المريجة التي تقع الكنيسة في نطاقها العقاري، سابقًا. وعلى الرغم من أن بعض الكنائس في ساحل المتن الجنوبي قد رُمِّمت وأُعيدت مفاتيحها إلى رعيَّتها إلّا أن كنيسة «سيدة البحار» ما زالت وحيدة تنتظر روّادها.

في الذكرى الخمسين لانطلاقة الحرب الأهلية أجريت مُقارنة بين الأوزاعي قبل الحرب وبعدها؛ هنا مسجد الإمام الأوزاعي الذي كان معلَمًا دينيًّا وثقافيًّا على مدخل بيروت الجنوبي، وهناك كنيسة «سيدة البحار» وقد تجمَّع الناس عند افتتاحها حاملين العلَم اللبناني، وهذا شاليه «أكابولكو» لصاحبه رجا صعب وبناه فرديناند داغر. 

وفي صورة أخرى تستلقي سيِّدتان بلباس البحر تحت أشعة الشمس وتبتسمان للكاميرا. أين تهجَّرت هذه الناس؟ وكيف حَزمواأمتعتهم؟ وفي أي تاريخ تركوا المنطقة؟ 

في الذكرى الخمسين لبداية الحرب الأهلية لم تعُد الكنيسة المهجَّرة بعد لتؤنِس الإمام الأوزاعي في وحدته، ولم يعُد سكانها المسيحيين ليرمِّموا لنا ذاكرة أناس وناحية وُلدوا وعاشوا فيها وأنجبوا.

خمسون عامًا ولم تنتهِ الحرب ولا زلنا نعيش مخلَّفاتها، في عنفها، في انقساماتها العمودية والأفقية؛ خمسون عامًا ونحن جيل ما بعد الحرب ما زلنا نبحث عن مسبِّباتها وبدايتها ولم ولن نصل إلى النهاية السعيدة. 


تأمل لريان ناصر في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان»


الأوزاعي أرض غُربة وتهجير
SHARE