في قاموس اللغة، «التراث» هو مجموعة من الموروثات المادية والثقافية التي نرِثها من الأجيال السابقة: مبانٍ، قيَم، عادات... أمّا في تعريف منظمة اليونسكو، فالتراث هو «الإرث الثقافي والطبيعي المشترَك للإنسانية، ذو قيمة استثنائية، يجب الحفاظ عليه وصَونه ونقله للأجيال القادمة». تعريف يبدو مرتبطًا بما هو ثمين ورمزي ومشرّف. لكن، ماذا لو أصبحت الحرب من بين هذه الموروثات؟
في لبنان، لا يمكن اختزال الحرب، ولا سيما الحرب الأهلية، في خانة الحدَث التاريخي الذي مضى. هي لم تنتهِ فعليًّا، بل تحوّلت إلى زمنٍ يُستحضر كفصل دائم من الحكاية اللبنانية، تمامًا كما يُقال «في الشتاء»، «في الصيف» أو «أيام الحرب». أصبحت وحدة زمنية، ومصطلحًا يعرفه الجميع، حتى أولئك الذين لم يُعاصروه.
لقد نجحَت في الترسّخ داخل الذاكرة الجمَعية، لا بوصفها مأساة تمَّ تجاوزها، بل كعنصر حيّّ من عناصر تشكيل الهوية. تتسرّب إلى التفاصيل اليومية، إلى ردّات الفعل، إلى العلاقات الاجتماعية، إلى الخطاب العام، وحتى إلى العمارة والأعمال الفنية. من هنا، يمكن القول إن الحرب بكل ما حملته من ويلات، باتت جزءًا من «التراث الحيّ» اللبناني، إرثًا غير مادي، لا ينتقل كمعلومة تاريخية نرويها، بل كسلوك غير مرئي، وكذاكرة محفورة.
لم أدرك حجم العنف غير المرئي الذي أحمله في داخلي إلّا بعد مغادرتي لبنان. كان لا بدَّّ من مسافة - جغرافية وثقافية - كي أرى ما كان خفيًّا ومألوفًا في آن. في محيطي الجديد، وعند كل تفاعل يومي مع أشخاص من ثقافات مختلفة، بدأت تتكشّف لي سلوكيات كنت أعتبرها طبيعية، ردود فعل مبالََغ فيها في لحظات توتُّر، مَيل تلقائي إلى الحذَر أو الصدام عند مواجهة اختلاف، وطريقة مقاربة الخلافات كما لو كانت معارك لا بدّ من كسبِها أو خسارتها.
حتى اللغة اليومية كشَفت لي وجهًا من هذا العنف الموروث. مصطلحات كنت أستخدمها بسلاسة في عملي كمهندس معماري، كأنها جزء من المفردات التقنية العادية: «خطوط تماس»، «مناطقنا ومناطقهم»، «هدنة» و«رهائن...»؛ كنت أستعملها في وصف سياقات تقنية أو تخطيطية، دون أن ألحظ وقْعها أو رمزيّتها. لكن استغراب زملائي لهذه التعابير جعلني أعيد التفكير في الحمل الثقيل الذي تنطوي عليه.
هذا العنف غير المرئي جَمْعي بامتياز. إنه انعكاس لتجارب وصدمات لم تخضع لأي معالجة حقيقية، بل تراكم فوقها الصمت، وتحوَّل إلى طبقة داخلية في الشخصية الجَمعية. لا يُشترط أن يكون الإنسان قد عاش الحرب كي يحمل أثَرها، فالموروث الثقافي والاجتماعي الناتج عنها كافٍ لنقلها من جيل إلى آخر دون وعي. ويظهَر حين نخرج من سياقنا المعتاد ونُجبر على رؤية أنفسنا خارجه.
لا تمرّ ذكرى الحرب الأهلية مرور الكرام في الثالث عشر من نيسان من كل عام. يُستعاد هذا التاريخ كأنه ما زال حيًّا فينا: تُنظَّم فعاليات، وتُكتب مقالات تتكرَّر سنويًّا، ومع ذلك، نادرًا ما يُذكر تاريخ انتهاء الحرب. لا يُقال «انتهت الحرب في...»، بل يُشار فقط إلى اتفاق الطائف، وكأنه مجرّد تسوية سياسية عالقة في النصوص. إن هذه الفجوة الزمنية بين بداية معروفة ونهاية غير محسومة، ليست مجرّد تفصيل، بل تعبير عن حرب لم تُنهَ بالكامل، بل استقرّت كحالة ذهنية دائمة الحضور، كأي هدنة.
هذا التمدُّد الزمني للحرب ينعكس بوضوح في الإنتاج الثقافي والفني. فالمسرح اللبناني، كما السينما والأغنية، لا تزال تستحضر الحرب في تأكيد على أن الذاكرة لم تُطوَ بعد.
في حقل العمارة، المُفترض أن يكون في جوهره فعل بناء لا استحضار للدمار، نجد أن بعض المعماريين استخدموا آثار الحرب كلغة تصميمية. ففي أعمال برنارد خوري، تظهر عناصر مُستوحاة من السلاح، مثل المدافع المعدنية على بعض أسطُح العمارات. أما مبنى «حديقة الحجر» الذي صمّمته المعمارية العالمية لينا غطمة في قلب بيروت، فيُمثل بدوره شهادة على الأثر البصري والنفسي للحرب، إذ اختارت توزيع الفتَحات بشكل عشوائي على الواجهة لمحاكاة آثار الرصاص على مباني العاصمة. وبحسب ما صرّحت في مقابلاتها، فإن هذا التصميم يحمل بُعدًا رمزيًّا لتحويل الجرح إلى منفذٍ للحياة. ومع ذلك، يبقى هذا المسعى الجمالي مرتبط بذاكرة الدمار، ويُحوّل المعاناة إلى صورة مكرّسة. إنها محاولة لترويض النُدبة، لا لمحوها.
فإذا استحضرنا تعريف منظمة اليونسكو للتراث، فإن هذه التصاميم تُبقي الماضي حاضرًا وتُعيد إنتاجه، وهو ما لا ينبغي فعله مع أحداث صادمة كالحرب الأهلية. فلا يمكن التعامل معها على أنها جزء من التراث الذي يجب الحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال القادمة. بمعنى آخر، إذا أخذنا مبنى إهراءات مرفأ بيروت كمثال، فإن الحفاظ عليه كشاهد على حدثٍ جلَل هزّ المدينة والبلاد يبدو مشروعًا وضروريًّا، ولكن لا يصحّ محاكاة هذا المبنى المدمَّر في تصاميم معمارية جديدة. هنا يتجلّى الفرق بين تجاوز الماضي وتأبيده في الحاضر.
وعلى الضفة الأخرى من المدينة، وتحديدًا في منطقة السوديكو، يتوسَّط مبنى «بيت بيروت» هذه المساحة التاريخية. هذا المبنى الذي يعود إلى الحقبة العثمانية، خضع لأعمال ترميم وحُوِّل إلى متحف، تُنظم داخله جولات سياحية من المفترض أن تُعرّف الزائر على تاريخ المبنى وقيمته التاريخية وعلى سيرة المعماري المعروف الذي صمّمه. لكن حتى في هذه الجولات، يُسلَّط الضوء بشكل مبالَغ فيه على الحرب الأهلية، إذ يُقدَّم المبنى أساسًا كمركز قنْص يقع على خطوط التماس، مع قصص كثيرة، أغلبها غير دقيق. وهنا يتضح كيف اختُزلت هوية المبنى بجزءٍ من تاريخه، هو الجزء الذي ربما كان الأجدَر أن يُترك للنسيان، لا أن يُضخَّم في الذاكرة الجماعية.
من جهة ثانية، تُشكّل النُّصُب التذكارية في لبنان مثالًا حيًّا على النزاع الرمزي حول الذاكرة. فبدَل أن تكون معالِم جامعة، أصبحت رموزًا مشحونة بالمعاني السياسية والطائفية، تُعيد استحضار الصراعات الماضية وتُكرّس سرديات متنافسة. ففي حين يُنصَب تمثال لـ«الشهيد البطل» في منطقة ما، يُنظر إليه في منطقة أخرى كـ«مجرم حرب»، بحسب اختلاف المعايير والهويات.
لكل حزب أو طائفة نُصبُها التذكارية في مناطق نفوذها؛ ففي الضاحية الجنوبية، نجد نُصُبًا لمقاتلي حزب الله، مثل «حديقة الشهداء»؛ وفي زحلة، نُصُب تُكرِّم عناصر من القوات اللبنانية؛ وفي الزهراني والنبطية، نُصُب لعناصر من حركة أمل.
ورغم هذا التوزُّع، لا وجود لأي نُصُب وطني رسمي موحَّد يُخلّد كل ضحايا الحرب الأهلية، بكل أطيافهم وانتماءاتهم.
لم تكن هذه النُّصب التِّذكارية وسيلة للمصالحة، بل مرآة لانقسام لم يُحسم بعد. فبدل أن تجمع اللبنانيين على ذاكرة مشتركة، تُعيد ترسيخ الهويات الفئوية وتُبقي تراث الحرب حيًّاً.
خارج لبنان، نُرى كأبناء للحرب. لا تُعرَّف هويتنا من خلال ثقافتنا المتنوّعة، أو إرثنا الفكري، أو إنجازاتنا الفردية، بل غالبًا من خلال ما خلَّفته الحرب فينا أو حولنا. النظرة الأولى إلينا محمّلة بتصوُّرات مُسبقة: إننا نحمل في ذاكرتنا، وربما في جيناتنا، إرثًا من العنف، من الانقسام، من الصراع.
والمؤلِم في الأمر أن هذه النظرة، ليست دومًا بعيدة عن الواقع. لأننا، حتى مَن لم يعايش منا الحرب فعليًا، يحمل تداعياتها في لاوعيه. فذاكرتنا الجماعية مُثقلة بالخسارات: منازل تهدّمت، أحباء اختفوا فجأة، معالم طُمست أو استُبدلت، وصوَر معلّقة على جدران المنازل، والذاكرة لا تزال تنبض بالحزن. إنه عنف لا يُرى، لكنه متجذِّر فينا. لا يُعبَّر عنه دائمًا بالصراخ أو العدوان، بل يظهر في أدقِّ التفاصيل: في لغة الجسد، في الاحتراس من الآخر، في الخوف من الانتماء التام.
وهكذا، يستمرّ الموروث الحربي كعدَسة نُرى من خلالها، وتُختزل الذات بجزء منها، وتُعرَّف فقط من خلال ما كابدَته، لا من خلال ما تطمح إليه. وكأننا لسنا فقط ضحايا مرحلة تاريخية، بل حاملوها، مكرّسوها، وجزءٌ من دورتها. وهذا ما يطرح سؤالًا مؤلمًا: هل نستطيع يومًا، أن نروي قصتنا بعيدًا عن الحرب؟
«لا يوجد شيء أكثر قذارة من الحرب. يجب ألا نعرِضها كبطولة، بل كشيءٍ مروّع. يجب أن نُخيف الناس منها، لا أن نُغريهم بها». بهذه الكلمات، يصف الروائي الروسي فيكتور استافييف الحرب.
في لبنان، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا على اتفاق الطائف، لا تزال الحرب حاضرة كإرث حيّ لم يُمَس. لم يُحاسَب أحد، لا بل أُعفِي جميع مجرمي الحرب بموجب قانون العفو. لم يُعالج المجتمع، بل تُرك ليتأقلَم مع ندوبه كأنها قدَر. حتى المبادرات التي حملت نوايا صادقة مثل «تنذكر ت ما تنعاد»، وإن أرادت التحذير، ساهمت - من حيث لا تدري - في ترسيخ صورة الحرب كشبح موجود ولكن لا نراه، دائمًا نخشاه، لا كجرحٍ يجب تجاوزه.
بهذا المعنى، الحرب في لبنان لم تُطوَ صفحة منها. إنها موروث، وليس تراثاً يجب علينا الحفاظ عليه ونقله للأجيال، لا يليق أن نحتفي به، بل يجب أن نحمله بمسؤولية، كعبء أخلاقي علينا تفكيكه. إرث يتطلّب شجاعة مضاعفة: شجاعة قول الحقيقة، شجاعة طرح الأسئلة، وشجاعة بناء سردية جديدة، تنطلق من السلام لا من الخوف، من التعدُّد لا من الانقسام، ومن الأمل بغدٍ سليم.