مجزرة في القرية.... وجروح لا تندمل
بقلم ميريام الحاج
November 20, 2025


الصورة اهداء من لأيمن نحلة

مرَّ أكثر من نصف قرن على الحرب الأهلية اللبنانية، لكنني لا أزال أرى آثارها في كل زاوية من حياتنا. في الشوارع، في الأحاديث، في الصمت الذي يملأ المسافات بين الناس. مجازر الأمس لم تُنسَ، والعنف لم يُطوَ بالكامل. أحيانًا أشعر وكأن الحرب لم تنتهِ فعلاً، بل غيّرت شكْلها، وتسلَّلت إلينا بصوَر جديدة. أعيش بين جيلٍ خاض تلك الحرب ورفض أن ينسى، وجيلٍ وُلد بعدها لكنه ورَث الجراح، وكأن الذاكرة تنتقل عبر الدَّم. كثيرًا ما أسأل نفسي: هل كان الصمت خيارًا؟ وهل يمكن أن تكون المسامحة مُجدية من دون مساءلة؟ في هذا النص، أعود إلى مجزرة عينطورة التي وقعت في آذار ١٩٧٦، قريتي التي وُلدتُ فيها، لأحاول أن أفهم: هل غياب العدالة جعل العنف يتكرَّر؟ وهل نستطيع أن نبني مستقبلًا إن لم نواجه الماضي بصِدق؟

حاوَرتُ رئيس قسم الحزب السوري القومي الاجتماعي وآخرين من حزب الكتائب، مقارِنةً بين الروايات والشهادات، بهدف البحث عن خيطِ الحقيقة بين وجهات النظر المتناقضة.

تبدأ الأحداث، حسب روايته، حين دخل جيش أحمد الخطيب، لكنهم فوجئوا بأن جميع المنازل تحمل شعار الحزب القومي، رغم أن الكثير من سكان البلدة ينتمون إلى حزب الكتائب، مما أثار شكوك ذلك الجيش. 

تصاعَد التوتر بعد خطف عدد من شبّان الكتائب، ما دفَع يوسف فؤاد، من الحزب القومي، لمحاولة إعادة المخطوفين، لكنه اغتيل. بعد انسحاب جيش الخطيب، تجمَّع شباب الكتائب في أنطلياس وقرّروا التوجُّه إلى عينطورة، لكنهم اكتشفوا أن الجيش قد انسحب. ومع ذلك، وقَعت المجزرة في البلدة، حيث سقَط العديد من القوميين ضحايا للعنف الوحشي، وكان بعض القَتل على يد أهل البلدة أنفسهم. من بين الشهادات المؤلمة، كانت قصة أب شاهد ابنه يُقتل، ثم دفع المال ليُدفن بكرامة. بعد المجزرة، ردَّ الحزب القومي بطريقة مشابهة، حيث تمَّ قتل المشاركين في المجزرة وتعذيبهم، بالإضافة إلى قتل مَن لم يُشارك من الكتائب.

سألته عن إحياء الذكرى، فأجاب جازمًا: «نحن لا نريد العودة إلى الماضي، فقط نُحيي ذكرى شهدائنا».
وعندما سألته عن غياب المحاسبة، قال: «نحن لا نبحث عن محاسبة، بل عن اعتذار من الطرف الآخر. حاوَلنا التوصل إلى ذلك عبر اجتماع مع مسؤول الكتائب والكاهن، وكان من المفترض أن نقدِّم اعتذارنا، لكن الطرف الآخر تراجع في اللحظة الأخيرة».

في حواري مع أطراف من حزب الكتائب، وصفوا بلدَتهم بأنها كانت تحت احتلال «الغرباء» من جيش الخطيب والفلسطينيين والحزب القومي. وبما أن هؤلاء ليسوا من أبناء البلدة ويمتلكون القوة العسكرية، اضطُر العديد من الأهالي إلى النزوح نحو بلدتَي المروج وبشلاما بعد تعرُّضهم للقصف.

اتهم جيش الخطيب حزب الكتائب بقتل عائلة من عشرة أشخاص، نجا منهم اثنان فقط. ردًّا على ذلك، شنّ شباب الكتائب هجومًا لاستعادة البلدة، مؤكِّدين أن هدفهم كان طرد المقاتلين الغرباء، لا قِتال أبناء البلدة. وأسفر الهجوم عن سقوط قتلى من جميع الأطراف.

أسفرت المجزرة عن مقتل العديد من أبناء البلدة، رغم أنهم لم يكونوا الهدف الأساسي. وأوضح أحد المشاركين أن اجتماعًا جرى بين القوميين في البلدة لمحاولة التوافق وضبط السلاح لتفادي التصعيد. ورغم ذلك، سادَ بعض الأمل حين ظنّوا أن جيش الخطيب لن يجتاح البلدة، بل سيكتفي بالمرور فيها. وجاءت الأحداث بعكس التوقُّعات، إذ اجتاح جيش الخطيب البلدة واحتلّها بالكامل، وتعرّضت للحرق والدمار، ما جعل حياة السكان أكثر صعوبة طيلة ستة أشهر من الاحتلال.

وعند سؤالي عن سبب التراجع عن الاعتذار، أوضح أحد الشهود أن الكتائب لم ترفض الاعتذار، بل المشكلة كانت في شروط الحزب القومي، الذي طالبهم بالاعتراف الكامل بالمسؤولية دون تقديم أي اعتذار مقابِل من جانبه. قال: «أردنا الاعتذار كخطوة للتهدئة، لكن رفض الطرف الآخر الاعتراف بالمسؤولية جعل التسوية مستحيلة».

روى شاهد كان في الحادية عشرة من عمره كيف لا تزال أصوات القصف تلاحقه، مؤكِّدًا أن المجزرة طالت الجميع. كما تحدَّث عن عمِّه غير المنتمي لأي طرف سياسي الذي راح ضحية، مثل العديد من الأبرياء في هذا الصراع.

مع كل هذه الحوارات والشهادات التي جمعناها، يبقى هناك حلقة مفقودة في محاولة فهم مَن هو المظلوم ومَن هو الظالم في هذا الصراع المعقَّد. لا يمكن إنكار بشاعة ما حدَث، لكن من الصعب تحديد مَن كان البادئ في تلك الأحداث وما هو السبب المباشر. الجميع كان يحمل جراحًا، وكان كل طرف يرى نفسه مدافعًا عن هويته ووجوده. هذه الديناميكية المعقّدة جعلت من المستحيل وضع الملامة بالكامل على طرف واحد.

غياب الاعتذار وعدم تخطّي الماضي كان السبب في استمرار دائرة العنف بين الأجيال الجديدة. الشباب الذين نشأوا في ظلِّ هذا الصراع أصبحوا ضحايا لهذا الإرث الثقيل. من دون مواجهة مع الماضي أو اعتراف من الأطراف بما ارتكبته، استمر العنف حيث ظلَّ كل طرف متمسِّكًا بمواقفه.

يتجلّى هذا الواقع بوضوح في كل تحرُّك حزبي أو حتى من خلال مواقف عفوية، حيث يكفي أبسط تصرُّف أو مزحة غير محسوبة لإشعال فتيل التوتُّر، ليُعيد بذلك استحضار رواسب الماضي الدامي. واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك كانت في انتخابات عام ٢٠١٨ والتي تزامنت مع شهر آذار، وهو الشهر الذي يُصادف ذكرى المجزرة. في تلك الفترة، علّق رئيس قسم الكتائب السابق في البلدة صورة للرئيس بشير الجميل أمام منزله، مما أثار غضب الطرف الآخر، الذي اعتبر هذه الخطوة استفزازًا واضحًا. ردُّ الفعل جاء سريعًا، حيث تجمَّع عدد من شباب الطرف الآخر وتوجَّهوا إلى منزل الشخص الذي علّق الصورة. لم يتوقف الأمر عند مجرّد الاعتراض، بل قاموا بتمزيق الصورة والاعتداء عليه جسديًّا، ليكون هذا الحادث تجسيدًا آخر للتوتُّر العميق الذي لا يزال يعشِّش في النفوس.

حادثة أخرى تعكس هذا التوتُّر بشكل مؤلم حدثت عند مجيء شخص، كان قد شارك في المجزرة، إلى البلدة. هذا الشخص، الذي كان يُلقب بـ«المغوار» بسبب قتله لأحد أبناء البلدة، دخل بكل برودة أعصاب إلى المكان ليشرب البيرا أمام الجميع. هذا التصرُّف حرَّك مشاعر الغضب والانتقام مجدَّدًا، فاجتمع عدد من شباب الحزب السوري القومي الاجتماعي وتوجَّهوا إلى منزله للاعتداء عليه. لحسن الحظ، لم تسجَّل أيّ إصابات أو مواجهات عنيفة في تلك اللحظة، ولكن ذلك التصرُّف كان سريعًا ومتهوِّرًا، وكان من الممكن أن يؤدِّي إلى تصعيد أكبر وعواقب أكثر خطورة إذا لم يتمّ احتواؤه في الوقت المناسب.

ثم وقَعت حادثة أخرى خلال احتفالات سيدة العذراء في عينطورة، حيث قام أحد الشبان من البلدة بترداد الأغاني الحزبية الخاصة بالقوات اللبنانية. هذا التصرُّف أثار استفزازًا كبيرًا على الطاولة التي كان يجلس عليها أفراد من الحزب السوري القومي الاجتماعي. لم يمضِ وقت طويل قبل أن يقوم هؤلاء الأفراد بردِّ فعلٍ سريع، حيث هجموا على الشاب ورموه بزجاجات المشروبات. لحسنِّ الحظ، لم تحدث إصابات، ولكن الحادث كان دليلًا آخر على التوتُّر المتجدد بين الشباب في البلدة، الذي كان مرشَّحًا للانفجار في أي لحظة بسبب تصرفات قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طيّاتها تاريخًا طويلًا من الجراح والصراعات.

هذه التصادُمات بين الأجيال تعكس غياب المصالحة. أصبح العنف، سواء في التصرفات أو الكلمات، لغة يتحدث بها الشباب تعبيرًا عن ضيقهم من واقعٍ لم يتمّ تجاوزه. هذا يعمِّق الفجوة بين الطرفين ويجعل طريق المصالحة طويلًا وصعبًا.

رغم مرور أكثر من نصف قرن على مجزرة عينطورة، لا تزال آثارها حاضرة في الذاكرة الجَمعية لأبناء البلدة. تلك الجراح التي لم تُمحَ بعد، تؤثِّر في حياتهم اليومية وتظلُّ جزءًا من واقعهم الذي لم يجد بعد العلاج الكافي. لم تُعالَج جراح الماضي بشكل يخفِّف من أثَرها، ولا تزال المأساة ماثلة أمام الأجيال الجديدة. فالمصالحة الحقيقية لا يمكن أن تتحقَّق من دون مواجهة صادقة مع التاريخ، ومن دون الاعتراف بتفاصيل الماضي الأليم الذي لا يمكن تجاهله.

والواقع، أن العنف لا يختفي مع مرور الزمن، بل قد يتجدَّد بأشكال مختلفة، خصوصًا عندما يطغى الصمت على المطالبة بالعدالة والمحاسبة. فالمماطلة في إحقاق الحقّ غالبًا ما تكون أحد العوامل الرئيسية التي تمنع المجتمع من المضيّ قُدمًا نحو شفاء الجروح القديمة. المحاولات التي جرَت لتحقيق المصالحة كانت صادقة في نواياها، لكنها لم تكن كافية. ذلك التردُّد والتراجع الذي شهدته الأطراف المعنية زاد من تعقيد الأمور، فلم تُسهم هذه المحاولات في شفاء الجراح كما كان مأمولًا، بل ظلَّت العوامل المسبِّبة للصراع كامنة في النفوس.

إن الطريق إلى المصالحة ليس سهلًا، بل هو طريق طويل يتطلَّب جهدًا جماعيًّا حقيقيًّا. المصالحة لا يمكن أن تتمّ من خلال التهدئة الظرفية أو مجرّد الاتفاقات التبسيطية، بل تحتاج إلى اعتراف كامل بالماضي والتعامل معه بجدّية. ورغم الصعوبات الكبيرة التي تعترض هذا المسار، تبقى الخطوات الصغيرة نحو التفاهم والعدالة هي الأساس في بناء مستقبل يختلف عن الماضي، مستقبل خالٍ من الأحقاد والتوترات التي تهدِّد استقرار المجتمع.


تأمل لميريام الحاج في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان» بدعم من برنامج التمويل زيفيك.


مجزرة في القرية.... وجروح لا تندمل
SHARE