رغم بُعد زَمانُ وقوعها، لكنّها لا تزال عالقةً في مخيّلة الكثير منّا. انا لم أعِشها، ولكنني تصوّرتها مرارًا في ذاكرتي فهي التي همّشَت هويتي الأمّ وهي التي زادت الفِرقةوالتنابذ في بلادي، وهي التي رعرَعَتْ العنف الرمزي في حياتي اليومية وانتقلت تداعياتها إلى أجيالنا الحاضرة.
من أكبر المطبّات التي مرّت على لبنان، تلك الحرب التي اندلعت بين أهله وكان عنوانها «البحث عن هوية موحَّدة»إلّا أنها في نهاية المطاف أدّت إلى تناسي الهوية اللبنانية الوطنية. فمنذ العام١٩٧٥ حين بدأت الشرارة الأولى إلى نهايتها في العام١٩٩٠ عاش سكان لبنان صعوبات كثيرة نجمت عنها؛ صعوبات بشرية، عمرانية، اقتصادية، سياسية واجتماعية لمتنتهِ بعد، ولا نزال نعيش تداعياتها، نحن الجيل الحالي. تعدَّدت أنواع العنف في هذه الحرب، عنف جسدي استُخدم بشكل مباشر، عنف الطائفي أدّى إلى زيادة الكراهية في نفوس الناس تجاه بعضهم البعض، عنف سياسي، اقتصادي، نفسي واجتماعي، إضافة إلى عنف رمزي يعيشه لبنان في أيامنا هذه.
منذ وجود لبنان، وُجد كبلد طائفي، تُسمع النعرات الطائفية فيه بين المزاح والجدّ، بلدٌ اعتاد على العنف الطائفي والسياسي. ومن أبرز أنواع العنف المُعاشة في لبنان، العنف الرمزي الذي يتجسّد في رموزٍ ومعاني يظهَر الحقد على ألسنتها، وتهدف إلى فرض الهيمنة الاجتماعية والثقافية دون استخدام العنف الجسدي أو أي نوع من أنواع العنف المباشر، وخصوصًا ما خلّفته فينا الحرب الأهلية التي أهلكت لبنان وزرعت فيه أنواع شتّى من العنف المتوارثة جيلًا بعد جيل. فدائمًا،وبعد كل قراءة عن هذه الحرب، يمرّ أمامنا، حتمًا، مشهدًا من مشاهد العنف الرمزي العالق في أذهاننا جميعًا.
فمن منّا لم يسمع واحدًا من الخطابات الطائفية المتناسلة، وخصوصًا ذلك الذي كان يُقال منذ انقسامات الحرب الأهلية إلى يومنا هذا! تلك الخطابات التي تهدف إلى زرع الخوف من الآخر ووجود مذهبه وكأنه يشكِّل تهديدًا وجوديٍّا للشخص وبيئته وطائفته. أو مثلًا مَن منّا لم يلاحظ ان كلّ من الطوائف اللبنانية تسرد أحداث الحرب الأهلية على هواها، فتجيِّر الحقّ والحقيقة لمآربها. لكنّ الحقيقة تتكشف عن كونها مخطئة دون شك، فمَن يقتل ويذبح أبناء بلده سوف يظلّ «الحقّ» بعيدًا من متناوله.
لقد تجسَّد هذا العنف بعد الحرب بشكله الرمزي في مواقف عديدة، كالخطابات السياسية التي يُتحفنا بها رؤساء الأحزاب والطوائف، والسياسيون الذين يقومون بدسِّالسُّم في العسل لزرع الحقد في النفوس، من خلال الإعلام والفن. وهذا ما يؤدّيإلى تغييب المصلحة العامة ويندرج في خانة الهيمنة الثقافية.
يعمل هذا العنف الرمزي ككتلة سرطانية تهدف إلى نشر الطائفية بما تحمله من رسائلٍ مبطَّنة، ولن يتحقَّق السلام الّا عند استئصالها من سياسيي الوطن وحكّامه وطبقته السياسية. فقد انتشر هذا العنف في جميع أطرافه وصولًا إلى الكبد،أي إلى المؤسّسات التعليمية، فتعمل المدارس والجامعات على نشر هذا «المرض العُضال» والترويج له، عن قصد أو من دون قصد، وينتج عنه رموزًا تعنيفية ترسخ في أذهان الأطفال والشباب، لينشأ منها جيلٌ بعيد كلّ البُعد عن هويّته اللبنانية، متشبثٌ بهويّتهالدِّينية والسياسية، ينشر المصطلحات الطائفية من خلال نقاشاتٍ بسيطة لا يعلم مدى خطورتها ويساهم بخلق النعَرات التي تُميت روح التعايش وتقطع الأمل المتبقّي، ويسلب راحة البلاد ويبثُّ نار الحقد بين الطوائف لتشتعل حتى تحرق هويتنا الأصلية.
سلبت هذه الحرب ما لا يمكن تعويضه منّا ومن مَن عايش الحرب، كإحدى السيدات، وتُكنّى بأمّ نادر، وهي امرأة من المنطقة الشرقية، وقد خسرت ابنها في نزاعٍ غير مجدٍ والتي انتظرته طويلًا، وماتت وهي تنتظر طيرًا يحمل لها خبَرًا عن ابنها الذي قيل لها إنه في سوريا؛ وسليم الذي خسر شعوره بالانتماء الوطني وضاع بين صراع البقاء أو التهجير من منطقة إلى أخرى ليلجأأخيرًا إلى بلدة الشويفات بحثًا عن مكان يلوذ به؛ أما عن جورج الذي رابطالذُّعر في قلبه حتى صار في عمر الخمسين، فكان يهروِل مذعورًا من أصوات هي اليوم تتهيّا ورِثها من أصوات القصف الذي عايَشه منذ طفولته. وهنا نرى أن من تأثّروا هم اشخاص عاديّون مثلَنا، منهم من فقَد عزيز ومنهم من حُرمَ من تراب الوطن ومنهم مَن عُقدت نفسيته بخيوط خوفٍ بات من الماضي، لكن العُنف لا ينسى بل يكبُر في الذاكرة حتى يأكل شرايين الوعي، ويقطَع أحزمة الأمان من قلب المرء، حتّى يظنُّ أن الطمأنينة باتت فخًّا لكرهٍ مكبوت.
أمّا عنّي، فأنا كذلك ضحيّة حرب، حرب سلَبت الأمن والأمان والطمأنينة من بلدي، حربٌ زرَعت خوف التنقّل بين مناطقنا، فجوةٌ لا يُستهان بها. أنا لم أشهد الحرب، ولم أسُدَّّ أذنَي بسبب أصوات المدافع والرصاص، لم أتنقّل من منطقة إلى منطقة، لم أخفِ، لم أذبَح، ولم أغيّر طائفتي خوفًا من سَلبٍ روحي. لكنّني اليوم أشهد تداعيات الحرب على بلدي، بلدٌ تقسّم بسبب هذه الحرب فمَن يسكن الجنوب يجهل جوع الشمال ومَن يسكن في الشمال يصِمأذُناه عن مجازر الجنوب. قُسّمت البلاد ونحن على أرضٍ واحدة، لم تُقسم الأرض، بل قُسمَت قلوبنا وهويّتنا وطوائفنا وسياستنا، لكنّنا اجتمعنا، اجتمعنا في العُنف. لم يُقصِّر أحدنا من شتى المناطق والطوائف بقذف تُهمة العُنف على غيره، بل كنّا أكرم الكرَماء بهذا. ولا يزال لبناننا إلى اليوم يتألمّ بكلّ خطوةٍ يخطوها، حاملًا في قلبه نعَراتتوارثَها منذبدء حرب الجحيم في العام ١٩٧٥. شهدناها قلبًا وقالبًا وجيلّا بعد جيل. فليس الضحية فقط هو مَن يموت في الحرب، فكلنا ضحايا هذه الفتنة، فهناك منشاهد أبناء الوطنٍ الواحد يمارسون القتل والذبح تجاه بعضهم قد قُتل، ومَن عاشها ونجا منها أيضًا قُتل، وَمن هم مثلي ممّن صاروا شواهد على نتائجها القاسية، والمتفاقمة يومًا بعد يوم، يموت مئات المرّات في اليوم، دون معرفة مصيره. انتهى لبنان عندما بدأت دودة العنف تقضمأوراقه الخضراء، حتى أصبح شجرة جرداء تنتظر مَن يسقيها من مياه الهويّة الواضحة والمواطنية الصحيحة.
هنا نرى أنّ مَن تأثَّروابالحرب هم أشخاص عاديّون مثلي ومثلك، منهم مَنفقَد عزيزًا على قلبه، ومنهم مَن حُرم من تراب الوطن وهاجر، ومنهم مَنأصابته عُقدٌ نفسية فمدّت إلى حياته خيوط خوفٍ يعود إلى الماضي، لكنّ العنف لا يُنسى بل يرسُخ في الذاكرة حتى يأكل شرايين الوعي، ويقطع أحزمة الأمان من قلب المَرء حتّى يظنَّ أنّ الطمأنينة باتت فخًّا لكِرهٍ مكبوت.
مرّ وقت طويل على تلك الحرب، لكنها لا زالت عالقة في النفوس والعقول، وآثارها في وجدان كل لبناني عاشَها وفي مَننُقلت إليه من بعده. نعم أنا لبنانية من أكثر من عشر سنوات، لم أعايشها لكنني شعرت أنها زادت التفرقة في الهوية اللبنانية من أبناء وبنات جيلي، بدلًا من أن تكون هوية وطنية واحدة؛ لكن رغم صغر سني ألّا أنني أعايش نتائجها التي ما زالت راسخة في أعماق أبناء بلدي. زرعت الحرب الأهلية بذور كُرهٍ وحقدٍ واضحين في قلوب اللبنانيين، لم يعد يعلم أبناء الطوائف المختلفة مَنمعهم ومَن عليهم، وانتشر العنف الرمزي حتّى أصبح جزءًا من فِطرتنا، في الشوارع والإنترنت والتلفاز والخطابات السياسية والمدارس ومناهجها، ينشأ الطفل على العنف ويتعلّمه منذ نعومةِ أظافره، ولا مفر له، فمَن لم يسمع ويُصادف رموز العنف في منزله، حتمًا يكون قد عاشها في المدرسة، هذا العنف الذي يراه ويسمعه ويمارسه يوميًّا دون تأنيب ضمير ولا وعي نتائجه؛ليُغرق لبنان في دوامةِ الأزمات والصراع بين الغوص في العنف ومحاولة الانسلاخ عنه والسِّباحةِ عكس التيار.
مع قيام حركات التغيير التي حاولت إنقاذ لبنان من الغَرق قوبلت بالعنف الرمزي من جديد. في كلِّ فترة تزيد الفتنة والانقسام. هذا حال لبنان منذ وُجد، كلٌّ له هويته، متجاهلين هويتهم الأساسية. عاش هكذا وسيفنى على الحال ذاتها، أي صوتٍ يعلو بوجه ضوضاء العنف يُقطع الى الأبد، ومن هنا يحلم المواطن اللبناني بأمل أن يعيش «العيش المشترك» والسلام بين الطوائف يومًا ما والخلاص من شبح الحرب الذي يلاحقه في كل مكان وزمان. لكن عند الخلاص من رموز العنف هذه سيصرخ اللبنانيون صرخةً تعلو على صراخ المتشبّثين به، وسينقى هواء لبنان من غُبار العنف، وستنظف شوارعه من بقايا الطائفية، وستبقى الهوية اللبنانية الموحّدة هي عزّتنا وكرامتنا وما نصبوا إليه، وسيعيش لبنان حرًّا ويشفى من مرضه الخبيث الذي يجلب له هواجس الموت.
تأمل لزهراء سلمان في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (١٩٧٥–٢٠٢٥): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان» بدعم من برنامج التمويل زيفيك.