بيروت... تلك المدينة التي لا تَنام، كانت تتنفّس الحياة في كل زاوية، تهمُس بالأغاني من نوافذ البيوت، وتضحك من داخل شوارعها الضيّقة، بيروت، عاصمة الأمل، ستّ الدُّنيا كما سمّاها العشّاق، لم تكن تدري أن الربيع هذا العام سيحمل في قلبه خريفًا مبكرًا.
خرَج الناس إلى أعمالهم ككل يوم، يحملون القهوة بيَد، والأحلام باليد الأخرى. كان الصباح عاديًّا... أكثر من اللازم.
لكن الزمن كان يُخبّئ المفاجأة… كان القدَر قد نفَد صبْره وقرّر أن يُعلن انقلابه.
دوّى الرصاص في الشوارع التي كانت تنام على صوت فيروز، تفجّرت الحرب من قلب المدينة التي كانت تُحبّ الجميع، بلا شروط.
في لحظة، تغيّرت الوجوه. أصبح الجار خصمًا، والحيّ مسرَحًا، والصمت رُعبًا يقطَعه صوت الانفجارات، تمزّقت الصوَر المعلّقة في البيوت، وتحطّمت الطفولة تحت رُكام البيوت، كانت تلك بداية قصة لم يختَر أحد أن يرويها، لكنها كُتبت علينا جميعًا.
قصة واقعية، كتَبها الزمن بالحبر الأسود، وزيّنها القدَر بتفاصيل لا تُصدّق، تُغرِق القارئ في بحر من المشاعر المتضارِبة: دهشَة، غضب، ألم، ثم سؤال كبير لا جواب له: لماذا؟
لم تكن الحرب الأهلية مجرّد صراع مسلّح، بل كانت تمزيقًا للنسيج الاجتماعي، وانكسارًا في وِجدان شعب حلُم بدولة عادلة فاستيقظ على وطنٍ مفخّخ بالطوائف والسلاح والانقسام. جُدران المدن ما زالت تحمل آثار الرصاص، كأنها تصرُخ في وجه كل مَن ينسى أو يتناسى: «من هنا مرّت الحرب، هنا كان الألم».
منذ عام 1975 حتى 1990، سقَط الوطن في فخّ الحرب، ولم يخرج منه كما دخل، كانت الحرب كالنار تأكل كل شيء... الصداقات، الجيرة، الثقة، وحتى الضحكة، صار لكل طائفة جدار، ولكل شارع حاجز، ولكل اسم هوية قد تكون قاتلة.
طفلٌ صغيرٌ ينام تحت السرير لأنه يخاف من القصف، وامرأةٌ تُصِمُ أذُنيها كي لا تسمع أصوات الرصاص، وشابٌ ضاع مستقبله على أحد الحواجز، لأنه نطَق باسمٍ لم يعجب من يحمل السلاح. مآذِن احترقت، وأجراسٌ صمتُت، وقلوب الناس باتت قاسية، كيف يُشفى وطن إذا كانت ذاكرته تنزُف؟ كيف يتصالح مجتمع إذا كان كل فردٍ فيه يحمل رواية مختلفة عن الحرب نفسها؟
الكنائس والمساجد التي كان يُفترض أن تكون دُور عبادة، تحوّلت إلى خطوط تَماس، صار الانتماء الطائفي هو السلاح، والهويّة بطاقة مرور أو حُكم إعدام.
فكيف لوطنٍ نُسيت فيه قبور الشهداء، ولم تُعرف فيه مصائر الآلاف من المفقودين، أن يعيش سلامًا حقيقيًّا؟
رغم أنني لم أعِش الحرب الأهلية، إلّا أنني وُلدت من رمادها، لم أهرب بين الرصاص، ولم أختبئ في الملاجئ... لم أسمع صوت القذائف، لكنني سمعت أُمّي تصمُت فجأة حين يُذكر التاريخ، ورِثت الخوف في الأحاديث الهامسة، وفي نظَرات لا تثِق بسهولة، الحرب لم تزُرني، لكنها سكَنت من حولي... في الشوارع المكسورة، في الوجوه التي تُخفي أكثر مما تقول، أحبُّ بحَذر، أفرَحُ بخَجل، وكأن الذاكرة التي لا أملُكها تُحذّرني من الأمان... أنا ابنة سلامٍ لم يُولد بعد، أحاول أن أعيش في وطنٍ ما زال يتعلّم كيف يُسامح...
لم يكن العنف في لبنان فقط صراخًا في الشوارع، ولا رشَقات رصاص في الأحياء المتقابلة كان وما زال وجهًا يتبدّل كل مرة… مرة بلباس الطائفة، ومرة بلغة السياسة، ومرة بأرقام الدولار التي تخنُق الحياة من دون طلقة واحدة.
انتهت الحرب الأهلية، قالوا... لكن أي سلام هذا حين يُولد الطفل وفي قلبه خوف لم يفهمه بعد؟
حين يكبُر الشاب في شارعٍ مُغلقٍ على طائفته، وتُعلّم الفتاة منذ صغرها ألّا تثِق بمَن «لا يُشبِهُنا»، فقط لأن أحدًا قرّر أن الوطن لا يسع الجميع. الجيل الشاب اليوم لم يعرف صوت المدفع، لكنه سمعه في حكايات الجدّات، في ارتجاف أيدي الآباء وهم يروون ما لا يريدون أن يُروى. نعم، لم يرَ الحرب… لكنه وُلد في ظلّها، وتربّى بين جدرانها المتفسخة. رأى كيف يُصبح القاتل سياسيًّا ثم زعيمًا ثم مُخلّصًا، بلا حساب ولا اعتذار؛ رأى وطنًا يُنهب أمام عين الحقيقة، وجيلًا يُدفَن حيًّا بين الهجرة والبطالة والانهيار، رأى أمهاتٍ يبْكيْن في صمت، وآباءًٌٍ يُتقنون الصّبر القاسي، وأحلامًا تذوب في فنجان قهوة الصباح كأنها لم تكن...
أما في المدرسة، فالصّمت أبلغ من الكلام. لا منهَج موحّدًا يشرح ما جرى، لا سردية وطنية تحمي الحقيقة من التشظّي. يُطلب من التلاميذ أن ينسوا حربًا لم تُروَ لهم أصلًا، بينما هي تَغلي تحت سطح المجتمع ذاكرة لم تُوصَفَّ. وهكذا، تُولد أسئلة مشوَّشة: مَن الذي بدأ الحرب؟ مَن هو الذي خان؟ مَن هو العدو؟ وتبقى الإجابات مُشبعَة بالخوف من الآخر.
نحن جيلٌ لم يعِش الحرب، لكننا نعرف صوت الرصاص. لم نركض إلى الملاجئ، لكننا نرتجِف من خبر عاجل على شاشة التلفاز. لم نودّع أحبابنا على الحواجز، لكننا نشأنا على قصص ودّعت فيها الأمهات أبناءهنّ ولم يعُدن. نحن جيل ما بعد الحرب، لكن الحرب لم تترُكنا نكبَر بسلام. في لبنان، الحرب الأهلية انتهت، لكن لا أحد أعلن الحداد. لم نَدفُن ذاكرتنا، بل خبّأناها. حمَلها الآباء في صوتهم المرتجف حين يُفتح الحديث عن «تلك الأيام»، وفي نظرات الأُمّهات حين يُذكر اسم حيٍّ معيّن أو شارعٍ خَسِروا فيه شخصًا أو بيتًا.
في بيوتنا، كانت القصص تبدأ دائمًا بجملة تُشبه: «كانوا يقتلونا»، وتنتهي بصمتٍ طويل، يعلّق في الهواء كجرَس إنذار لا يتوقف. كيف لنا أن نكبر دون خوف، ونحن نُربّى على الحذَر؟ كيف نبني وطنًا واحدًا، ونحن علينا أن ننتبه من «الآخر»؟ لم يكن هذا عن حقد، بل عن جُرح. عن خوفٍ كبير لبسَ شكل الحِكمة: «لا تثِق بأحد»، في الظاهر الكراهية ليست دائمًا صراخًا أو شتيمة. أحيانًا تكون مجرّد جدار نفسي بينك وبين الآخر، تبنيه ببطء. وها نحن اليوم، جيلٌ يرِث الحروب دون أن يخوضها، يعيش في ظلِّ ذاكرة لم يختَرها، ويحاول أن يكتب صفحة جديدة من كتابٍ قديم، لم يُختم بعد... لكن ربما، فقط ربما، إذا تجرّأنا على الكلام... على السؤال... على الاستماع إلى روايات الآخر، يمكن أن نكتب هذه الصفحة أخيرًا. لا من أجل أن ننسى، بل من أجل أن نتذكّر بشكلٍ جديد. بشكلٍ يُشفي لا يُمزّق...
بعد الحرب، لم يعد العنف على شكل قذائف، بل تحوّل إلى رصاص صامت ومقصود. اغتيالات لشخصيات فكرية، سياسية وإعلامية شكّلت خطوات صغيرة في طريق جهّنمي: كلما حاول أحد أن ينكأ الجُرح لينظّفه، أسكَتوه. كان كل اغتيال رسالة. لا إلى القتيل فقط، بل إلى من يُشبهه؛ إلى من يُفكّر بالكلام، أو بالتمرُّد، أو بالمحاسبة. نحن جيلٌ نشأ على هذه الرسائل. كلما بدأنا نؤمن بالتغيير، جاء اغتيال ليقول لنا: «هذا ثمن الكلمة»! فكيف نصدّق أنّ العدالة ممكِنة، في بلد تُطفأ فيه الأصوات بدَل أن تُحمى؟ كيف نثِق بدولة، يخاف أبناؤها من التعبير أكثر مما يخافون من الحرب نفسها...
في تشرين الأول 2019، انفجر الصوت المكبوت. خرَج آلاف الشابات والشبان إلى الشوارع، يهتفون بكلمات بسيطة لكنها متأصِّلة، كانت تلك الصرخة لحظة نادرة من الوعي الجَمْعي، حيث تلاقى اللبنانيون على وجَع مشترك، لا على هوية طائفية، لكن النظام لم يُسقط سلاحه، بل بدَّل شكْله. واجَه الانتفاضة بالقمع، بالتخوين وبمحاولات زرع الفتنة الطائفية من جديد. تحوّلت الاحتجاجات السلمية إلى ساحة مواجهة مفتوحة، استُخدمت فيها كل أدوات الترهيب: من الغاز المسيِّل للدموع، إلى الرصاص المطّاطي، إلى الاعتقالات التعسُّفية.
كانت تلك الصرخة، رغم بساطتها، زلزالًا في بلدٍ اعتاد الصمت. انتفاضة شعبية عابرة للطوائف، عابرة للخوف، تُطالب بشيءٍ لم يعرفه لبنان منذ عقود.
آب 2020، ليس مجرّد رقمٍ في التاريخ، إنه جُرح مفتوح في قلب المدينة... انفجار المرفأ لم يكن «حادثًا» عابرًا، بل نتيجة تراكم الإهمال، الفساد، واللامبالاة، مئات القتلى، آلاف الجَرحى، أحياء سُوِّيت بالأرض... ومع ذلك، لم يُحاسب أحد حتى الألم في هذا البلد... البلا عدالة.
وفي نهاية كل هذا الكلام، يعود السؤال ليتسلّل إلى القلب بهدوء موجِع، هل ستظلّ هذه النُدوب تلاحق مَن لم يُولدوا بعد؟ هل نورّث أبناءنا الخوف كما ورِثناه؟ هل نتركهم يكبرون في بلدٍ يتذكّر الحروب أكثر مما يحلم بالسلام؟
نحن، جيل الشباب، نقف على جسر بين التراجيديا والرجاء، نحن أبناء الحرب دون أن نحمل سلاحًا، وأبناء السِّلم دون أن نتذوَّق طمأنينته لكننا أيضًا أبناء الرجاء، لأننا نطرح الأسئلة التي خاف غيرَنا من طرحها، ونحلم بما لم يجرؤ كثيرون على تصوِّره، أم نجرؤ نحن، الجيل الذي رأى الخراب وسُمّي «ما بعد الحرب»، أن نقول: كفى؟
هل نختار الصمت؟ أم الغضب؟ هل نُهاجر جميعًا؟ أم نحاول أن نبني، حتى فوق الركام؟ ما دَورنا نحن، في زمنٍ كل شيء فيه مكسور؟
ربما دَورنا أن نرفض العادي، أن نحاسب، أن نسأل، أن نكتب، أن نُحب رغم كل شيء... ربما دَورنا، ببساطة، أن نؤمن بأن هذه الأرض مهما نزَفت، تستحقّ مَن يحاول أن يضمّدها، لا أن يهرُب منها.
جيلُنا لا يملك كل الأجوبة، ولكننا نملك أن نسأل بأمَل، أن نحلَم بسلام مستحَق، وأن نحب هذا الوطن حتى لو كان جرحًا مفتوحًا ونازفًا.
تأمل لأليسيا طرّاف لَبكي في إطار مشروع «تأملات الشباب حول العنف في لبنان (1975–2025): مراجعة نقديّة للعنف والشباب في لبنان».